عرف التاريخ الإسلامي عددًا من الدول الطائفية التي استخدمت الإرهاب والتنكيل بالمجتمع الإسلامي لفرض أفكارها المنحرفة مثل القرامطة والبويهية والفاطمية والصفوية.
وقد كانت هذه الدول الطائفية نقمة على العالم الإسلامي، وتعاملت مع المجتمع الإسلامي بوصفه عدوًّا يجب إبادته.
وفرضت عليه عقائدها الطائفية عن طريق القوة والإرهاب، ومن يرفض فمصيره الموت، فضلًا عن ذلك فإن هذه الدول لم تكن تخجل من تحالفاتها المشينة مع الدول الصليبية ضد المسلمين.
وعليه فإننا نستعرض هذا التاريخ لنستلهم منه العبر ولنتمكن من فهم واقعنا المعاصر؛ حيث إننا نرى أن أحداث الماضي نفسها تتكرر في بعض الأحيان.
ولا يمكن أن نفهمها إلا إذا عرفنا القضايا المشتركة التي تشكل هذا التشابه.
ولا سيما عن المنطلقات العقدية لكل دولة حتى لا ننخدع بالشعارات البراقة.
وكلما استطعنا أن نقرأ التاريخ بعمق، تمكنَّا بوضوح من أن نعرف أين نضع أقدامنا، وإلى أين نقود مجتمعنا.
وعليه فإن فهمنا للتاريخ الصفوي يساعدنا في فهم الدولة الصفوية الجديدة ومنطلقاتها الشعوبية.
من هم الصفويون؟
يعود نسب الصفويين إلى الشيخ صفي الدين الأردبيلي (650- 735هـ/ 1251- 1334م) الجد الأكبر للشاه إسماعيل الصفوي مؤسس الدولة الصفوية.
يقول د. محمد نصر في كتابه (الإسلام في آسيا منذ الغزو المغولي):
"وقد التف حول الشيخ صفي الدين الأردبيلي عدد كبير من الأتباع والمريدين نتيجة للدعوة القوية أو الدعاية المؤثرة التي قام بها هو وأتباعه من المتصوفة والدراويش، الذين استطاعوا نشر دعوتهم لا في إيران وحدها، وإنما في بعض أقاليم الدولة العثمانية وفي العراق وبلاد الشام".
ويؤكد الدكتور نصر أن الأردبيلي استطاع التخفي بـ"التصوف"؛ لينخدع به الدراويش ليمهد لهم تحولهم فيما بعد، واستطاع الشيخ صفي الدين عن طريق إحدى الفرق التي تزعمها أن يشق طريقه في المجتمع الإيراني.
كما استطاع أن يكسب تأييد الكثير من الإيرانيين؛ مما أدى إلى تحول هذه الفرقة إلى الدعوة للمذهب الصفوي؛ حيث أشيع أن الشيخ صفي الدين وأولاده ينتمون إلى علي بن أبي طالب (ومن ثَمَّ لهم الحق في المطالبة بالحكم).
وكان صفي الدين قد لجأ إلى التقية إذ كان مظهره يوحي بأنه سني الاتجاه، بل إنه من أتباع المذهب الشافعي.
ولما تمهدت السبل أمام هذه الدعوة الصفوية أعلن أحد أحفاده الشاه إسماعيل الدعوة، بل إن السلطان حيدر أكد صلة نسبه بالإمام موسى الكاظم، ومن ثَمَّ أصبحت الدولة الصفوية في إيران تعتبر نفسها من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأصر إسماعيل الصفوي على فرض نحلته على شعبه وأعلنه مذهبًا رسميًّا للدولة في إيران، وقضى بالقوة المسلحة على معارضيه، واستطاع الصفويون أن يجمعوا حولهم أعدادًا غفيرة من الأتباع والمريدين، وتكاتفت الدعاية القوية، سواء في بقايا (العبيديين) الفاطميين في مصر.
أم في الإسماعيلية، أم في الأسرة الصفوية نفسها في إعلان المذهب الصفوي في إيران، لتتحول كلها بعد ذلك من المذهب السني إلى مذهب الدولة الجديدة.
وكانت ردود الفعل عنيفة، ولا سيما أن كثيرًا من سكان المدن الرئيسة في إيران مثل تبريز كانوا من السُّنَّة؛ لذلك بذل الشاه إسماعيل الصفوي جهودًا ضخمة في فرض المذهب الصفوي في إيران، فعلى الرغم من التهيئة الروحية للدعوة لمذهبه بين سكان إيران الذين كانوا في غالبيتهم من السنة.
فقد تعامل صاحب المذهب إسماعيل الصفوي أن يواجه هذا الموقف بتجنيد العناصر الصفوية للغرض هذا.
ووجد منها تأييدًا ومناصرة، واستغل حميتهم لمناصرتهم فدفعهم لضرب معارضيه والتأكيد لمذهبه في إيران.
لقد كان إسماعيل الصفوي شرسًا في حروبه، شديد الفتك بمعارضيه، ولا سيما إن كانوا من أهل السنة, وافتتح ممالك العجم جميعها، وكان يقتل من ظفر به.
وما نهبه من الأموال قسمه بين أصحابه ولا يأخذ منه شيئًا، ومن جملة ما ملك تبريز وأذربيجان وبغداد وعراق العجم وعراق العرب وخراسان.
وكاد أن يدعي الربوبية، وكان يسجد له عسكره ويأتمرون بأمره، قال قطب الدين الحنفي في الإعلام: "إنه قتل زيادة على ألف ألف نفس.
قال: بحيث لم يعهد في الجاهلية ولا في الإسلام ولا في الأمم السابقة من قبل في قتل النفوس ما قتله الشاه إسماعيل، وقتل عدة من أعاظم العلماء، بحيث لم يبق من أهل العلم أحد من بلاد العجم.
وأحرق جميع كتبهم ومصاحفهم، وكان شديد الرفض بخلاف آبائه، ومن جملة تعظيم أصحابه له أنه سقط مرة منديل من يده إلى البحر وكان على جبل شاهق مشرف على ذلك البحر.
فرمى بنفسه خلف المنديل فوق ألف نفس تحطموا وتكسروا وغرقوا، وكانوا يعتقدون فيه الألوهية، ذكر ذلك القطب المذكور، ولم تنهزم له راية حتى حاربه السلطان سليم المتقدم ذكره فهزمه"[1].
لقد تزعم الشاه إسماعيل المذهب الصفوي وحرص على نشره ووصلت دعوته إلى الأقاليم التابعة للدولة العثمانية، وكانت الأفكار والعقائد التي تنشر في تلك الأقاليم يرفضها المجتمع العثماني السني؛ حيث كان منها تكفير الصحابة.
ولعن العصر الأول، وادعاء تحريف القرآن الكريم، وغير ذلك من الأفكار والعقائد.
فكان من الطبيعي أن يتصدى لتلك الدعوة السلطان سليم زعيم الدولة السنية، فأعلن في اجتماع لكبار رجال الدولة والقضاة ورجال السياسة وهيئة العلماء في عام 920هـ/ 1514م.
أن إيران بحكوماتها الصفوية ومذهبها تمثل خطرًا جسيمًا لا على الدولة العثمانية، بل على العالم الإسلامي كله، وأنه لهذا يرى الجهاد ضد الدولة الصفوية. وكان رأي السلطان سليم هو رأي علماء السنة في الدولة.
ولقد قام الشاه إسماعيل عندما دخل العراق بذبح المسلمين السنيين على نطاق واسع، ودمر مساجدهم ومقابرهم، وازداد الخطر الصفوي ضراوة في السنوات الأخيرة من عهد السلطان بايزيد.
وعندما تولى السلطان سليم السلطنة قامت أجهزة الدولة العثمانية الأمنية بحصر الطائفيين التابعين للشاه إسماعيل والمناوئين للدولة العثمانية.
ثم قام بتصفية أتباع الشاه إسماعيل، فسجن وأعدم عددًا كبيرًا من أنصاره في الأناضول، ثم قام بمهاجمة إسماعيل نفسه[2].
لقد انتصر السلطان سليم بفضل الله تعالى وعقيدته السليمة ومنهجه الصافي وأسلحته المتطورة وجيشه العقدي المتدرب.
وعاد إلى بلاده بعد أن استولى على كردستان ودياربكر ومرعش وأبليسن وباقي أملاك دلفاود، وبذلك صارت الأناضول مأمونة من الاعتداء من الشرق.
وصارت الطرق إلى أذربيجان القوقاز مفتوحة للعثمانيين[3].
عمالة الصفويين
وما إن هزمت فارس في موقعة جالديران السابقة أمام السلطان سليم حتى كان الفرس أنفسهم أكثر استعدادًا وتقبلًا من قبل للتحالف مع البرتغاليين.
وبدأت تلك الاستعدادات للارتباط بالبرتغال عقب استيلاء البوكرك على هرمز، عندها وصل سفير من الشاه إسماعيل وتم الدخول في اتفاقية محدودة ما بين البرتغاليين والصفويين نصت على ما يلي:
أن يقدم البرتغال أسطولهم ليساعد الفرس في غزو البحرين والقطيف، كما يقدم البرتغال المساعدة للشاه إسماعيل لقمع الثورة في مكران وبلوشستان.
وأن يكون الشعبان البرتغالي والفارسي اتحادًا ضد العثمانيين، إلا أن وفاة البوكرك التي أتت بعد ذلك قد أعاقت ذلك التحالف[4].
لقد أظهر البرتغاليون توددًا للشاه إسماعيل قبل معركة جالديران، وكانوا يهدفون من وراء توددهم للصفويين أن تتاح لهم فرصة تحقيق أهدافهم في إيجاد مراكز لهم في الخليج العربي.
وكانوا يدركون أنهم إذا لم يكسبوا ود الصفويين؛ فإن تعاون قوتهم مع القوى المحلية في الخليج قد يؤدي إلى فشلهم في تحقيق أهدافهم.
ولا سيما أن مشروعاتهم في إيجاد مراكز نفوذ في البحر الأحمر منيت بالفشل إلى حد كبير.
وتبدو سياسة البرتغال الرامية إلى التحالف مع الصفويين في رسالة أرسلها البوكرك إلى الشاه إسماعيل الصفوي جاء فيها:
"إني أقدر لك احترامك للمسيحيين في بلادك، وأعرض عليك الأسطول والجند والأسلحة لاستخدامها ضد قلاع الترك في الهند.
وإذا أردت أن تنقض على بلاد العرب أو تهاجم مكة فستجدني بجانبك في البحر الأحمر أمام جدة أو في عدن أو في البحرين أو القطيف أو البصرة.
وسيجدني الشاه بجانبه على امتداد الساحل الفارسي، وسأنفذ له كل ما يريد"[5].
وهذا يؤكد حقد الصفويين على المسلمين وعمالتهم للصليبيين، والتاريخ يؤكد لنا أن الدولة الصفوية لم تعلن الجهاد على الدول الصليبية.
ولم تقم لنصرة المسلمين، في الوقت الذي كانت الدول الصليبية تتهيأ لابتلاع العالم الإسلامي.
ولقد أدت هزيمة الشاه إسماعيل أمام العثمانيين إلى حرصه الشديد على التحالف مع النصارى وأعداء الدولة العثمانية؛ ولذلك تحالف مع البرتغاليين وأقر استيلاءهم على هرمز في مقابل مساعدته على غزو البحرين والقطيف، إلى جانب تعهدهم بمساندته ضد القوات العثمانية.
وقد تضمن مشروع التحالف البرتغالي الصفوي تقسيم المشرق العربي إلى مناطق نفوذ بينهما؛ حيث اقترح أن يحتل الصفويون مصر والبرتغاليون فلسطين[6].
يقول الدكتور عبد العزيز سليمان نوار: إن الشاه لم يتوقف عن البحث عن حلفاء ضد الدولة العثمانية التي أصبحت القوة الكبرى التي تحول بينه وبين الوصول إلى البحر المتوسط.
وكان مستعدًّا لأن يتحالف حتى مع البرتغاليين أشد القوى خطرًا على العالم الإسلامي حينذاك، وهكذا بينما كان البرتغاليون يخشون من وجود جبهة إسلامية قوية ضدهم في المياه الإسلامية.
وجدوا أن هناك من يريد أن يتعاون معهم.
ومع أن هرمز-الجزيرة الصغيرة- أضيرت بشدة في اقتصادياتها التجارية بمجيء البرتغاليين المريعة.
إلا أن الشاه وضع مصالحه الخاصة وحقده الشديد على أن تظل هرمز تحت السيطرة البرتغالية في مقابل حصوله على الأحساء.
ولكن حتى هذه الفرصة لم يتحها البرتغاليون لحليفهم الشاه، وكانت النتيجة أن ساعدت سياسة الشاه هذه على تقوية التسلط البرتغالي على الخليج.
وخلف إسماعيل الصفوي ابنه (طهماسب)، الذي تحالف مع المجر والنمسا ضد الدولة العثمانية في عهد السلطان سليمان القانوني.
واستعان (طهماسب) بأحد رجال الدين من جبل عامل في لبنان وهو نور الدين علي بن عبد العال الكركي، فكتب له المؤلفات التي سوَّغت ممارساتهم ضد السُّنَّة، وأسَّس بفكره ومؤلّفاته لما يُسمى بـ(ولاية الفقيه).
بأن عدَّ زعيمَ الدولة الصفوية (نائبًا للإمام المنتَظَر)، وعاد نفوذ الصفويين إلى العراق عن طريق عملائهم الطائفيين هناك!
لكن السلطان سليمان القانوني أعاد فتح العراق من جديد، وقضى على حكامه الموالين للصفويين، وهلك (طهماسب) بالسمِّ على يدي زوجته، فخلفه من بعده ابنه (إسماعيل الثاني) ثم ابنه الثاني محمد خدابنده..
ثم جاء عباس الكبير بن محمد خدابنده الذي تواطأ مع بريطانيا ضد العثمانيين، وحاصر المدن السنية، ونكَّل بها وبأهلها.
وقام بترحيل (1500) عائلة سنية كردية، وقتل سبعين ألفًا من الأكراد السنة، ومنع الحج إلى مكة المكرمة، وأجبر الناس على أن يحجّوا إلى قبر (الإمام موسى بن الرضا) في مدينة (مشهد)!
بينما قام بتكريم النصارى والأوربيين، وبنى لهم الكنائس، وأعفاهم من الضرائب، وشاركهم أعيادهم، وهاجم الشاهُ عباس الكبير العراقَ، واستولى على بغداد والموصل وكركوك، ثم على معظم البلاد.
وحاول فرض المذهب الصفوي بالقوة، لكنَّ أهل العراق رفضوا ذلك، فنكّل بهم، قتلًا وتشريدًا وتعذيبًا، وسبى النساء والأطفال، وأعاد هدم مقابر العلماء كالإمام أبي حنيفة النعمان والشيخ عبد القادر الجيلاني.
وحوَّلها إلى مزابل، وحوّل المدارس السُّنِّية إلى (إصطبلات)، وقام بإعداد قوائم طويلةٍ لإبادة أهل السنة في العراق.. إلى أن أهلكه الله، فخلفه الشاه (صفيّ الأول)، الذي حرَّر العثمانيون العراقَ في عهده مرةً جديدةً.
هذه التصرفات المتكررة لاضطهاد أهل السنة ومحاولة فرض الفكر الصفوي على الأمة بقوة السيف واستيراد العلماء من لبنان والتقرب إلى النصارى ومساعدتهم على احتلال أرضي المسلمين.
تذكرنا بما تقوم به الدولة الصفوية الجديدة اليوم من الاضطهاد لأهل السنة في إيران، وإعطاء الحرية الكاملة لجميع الأديان حتى اليهود وعبدة النار!
يتمتعون بحرية العبادة وبناء دور العبادة ولهم وسائل إعلامية مستقلة، بينما نجد أن السنة في إيران يعانون أشد المعاناة ولا يُسمح لهم حتى ببناء مساجد خاصة لهم في طهران..
ومع هذا نجدهم يتحركون في كل مرة تجاه الدول السنية زاعمين أنهم يدافعون عن أقليات مذهبية! رغم أنهم متخصصون في اضطهاد الآخرين منذ قدم التاريخ.
ولا ننسى العلاقة المتميزة بينهم وبين جميع التكتلات الطائفية في لبنان وسوريا، وكأن التاريخ يعيد نفسه، بالأمس كان علماء جبل عامل هم النواة الأولى لدعم ونشر الفكر الصفوي.
واليوم يمثل "حزب اللات" الطائفي الشوكة الصفوية في خاصرة أهل السنة في بلاد الشام، ويستخدمه الصفويون الجدد أداة لنشر فكرهم وعصا غليظة لضرب أهل السنة في الشام!
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].
[1] البدر الطالع.
[2] جهود العثمانيين لإنقاذ الأندلس.
[3] المصدر السابق.
[4] المصدر السابق.
[5] قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين.
[6] المصدر السابق.
الكاتب: عبد الله الهمام
المصدر: مجلة الفرقان الكويتية